كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ومن المعلوم ان الاخلاق إذا اعتمدت على هذه العقيدة لم يبق للإنسان هم الا مراقبة رضاه تعالى في اعماله وكان التقوى رادعا داخليا له عن ارتكاب الجرم ولولا ارتضاع الاخلاق من ثدي هذه العقيدة عقيدة التوحيد لم يبق للإنسان غاية في اعماله الحيوية الا التمتع بمتاع الدنيا الفانية والتلذذ بلذائذ الحياة المادية واقصى ما يمكنه ان يعدل به معاشه فيحفظ به القوانين الاجتماعية الحيوية ان يفكر في نفسه ان من الواجب عليه ان يلتزم القوانين الدائرة حفظا للمجتمع من التلاشى وللاجتماع من الفساد وان من اللازم عليه ان يحرم نفسه من بعض مشتهياته ليحتفظ به المجتمع فينال بذلك البعض الباقي ويثنى عليه الناس ويمدحوه ما دام حيا أو يكتب اسمه في اوراق التاريخ بخطوط ذهبية.
اما ثناء الناس وتقديرهم العمل فانما يجرى في امور هامة علموا بها اما الجزئيات وما لم يعلموا بها كالاعمال السرية فلا وقاء يقيها واما الذكر الجارى والاسم السامى ويؤثر غالبا فيما فيه تفدية وتضحية من الأمور كالقتل في سبيل الوطن وبذل المال والوقت في ترفيع مباني الدولة ونحو ذلك فليس ممن يبتغيه ويذعن به ثم لا يذعن بما وراء الحياة الدنيا الا اعتقادا خرافيا إذ لا انسان على هذا بعد الموت والفوت حتى يعود إليه شيء من النفع بثناء أو حسن ذكر واى عاقل يشترى تمتع غيره بحرمان نفسه من غير أي فائدة عائدة أو يقدم الحياة لغيره باختيار الموت لنفسه وليس عنده بعد الموت الا البطلان والاعتقاد الخرافى يزول بأدنى تنبه والتفات.
فقد تبين ان شيئا من هذه الأمور ليس من شأنه ان يقوم مقام التوحيد ولا ان يخلفه في صد الإنسان عن المعصية ونقض السنن والقوانين وخاصة إذا كان العمل مما من طبعه ان لا يظهر للناس وخاصة إذا كان من طبعه ان لو ظهر ظهر على خلاف ما هو عليه لاسباب تقتضي ذلك كالتعفف الذي يزعم انه كان شرها وبغيا كما تقدم من حديث مراودة امرأة العزيز يوسف عليه السلام وقد كان امره يدور بين خيانة العزيز في امرأته وبين اتهام المرأة اياه عند العزيز بقصدها بالسوء فلم يمنعه عليه السلام ولا كان من الحري ان يمنعه شيء الا العلم بمقام ربه.
2- يحصل التقوى الدينى بأحد امور ثلاثة وان شئت فقل انه سبحانه يعبد بأحد طرق ثلاثة الخوف والرجاء والحب قال تعالى: {في الاخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا الا متاع الغرور} الحديد: 20 فعلى المؤمن ان يتنبه لحقيقة الدنيا وهى انها متاع الغرور كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا فعليه ان لا يجلعها غاية لاعماله فيالحياة وان يعلم ان له وراءها دارا وهى الدار الاخرة فيها ينال غاية اعماله وهى عذاب شديد للسيئات يجب ان يخافه ويخاف الله فيه ومغفرة من الله قبال اعماله الصالحة يجب ان يرجوها ويرجو الله فيها ورضوان من الله يجب ان يقدمه لرضى نفسه.
وطباع الناس مختلفة في ايثار هذه الطرق الثلاثة واختيارها فبعضهم وهو الغالب يغلب على نفسه الخوف وكلما فكر فيما اوعد الله الظالمين والذين ارتكبوا المعاصي والذنوب من انواع العذاب الذي اعد لهم زاد في نفسه خوفا ولفرائصه ارتعادا ويساق بذلك إلى عبادته تعالى خوفا من عذابه.
وبعضهم يغلب على نفسه الرجاء وكلما فكر فيما وعده الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات من النعمة والكرامة وحسن العاقبة زاد رجاء وبالغ في التقوى والتزام الأعمال الصالحات طمعا في المغفرة والجنة.
وطائفة ثالثا وهم العلماء بالله لا يعبدون الله خوفا من عقابه ولا طمعا في ثوابه وانما يعبدونه لأنه اهل للعبادة وذلك لانهم عرفوه بما يليق به من الأسماء الحسنى والصفات العليا فعلموا انه ربهم الذي يملكهم وارادتهم ورضاهم وكل شيء غيرهم ويدبر الامر وحده وليسوا الا عباد الله فحسب وليس للعبد إلا أن يعبد ربه ويقدم مرضاته وارادته على مرضاته وارادته فهم يعبدون الله ولا يريدون في شيء من اعمالهم فعلا أو تركا الا وجهه ولا يلتفتون فيها إلى عقاب يخوفهم ولا إلى ثواب يرجيهم وان خافوا عذابه ورجوا رحمته والى هذا يشير قوله عليه السلام «ما عبدتك خوفا من نارك ولا رغبة في جنتك بل وجدتك اهلا للعبادة فعبدتك».
وهؤلاء لما خصوا رغباتهم المختلفة بابتغاء مرضات ربهم ومحضوا اعمالهم في طلب غاية هو ربهم تظهر في قلوبهم المحبة الإلهية وذلك انهم يعرفون ربهم بما عرفهم به نفسه وقد سمى نفسه باحسن الأسماء ووصف ذاته بكل صفة جميلة ومن خاصة النفس الإنسانية ان تنجذب إلى الجميل فكيف بالجميل على الإطلاق وقال تعالى: {ذلكم الله ربكم لا اله الا هو خالق كل شيء فاعبدوه} الأنعام: 102 ثم قال: {الذى احسن كل شيء خلقه} الم السجدة: 7 فأفاد ان الخلقة تدور مدار الحسن وانهما متلازمان متصادقان ثم ذكر سبحانه في آيات كثيرة ان ما خلقه من شيء آية تدل عليه وان في السماوات والأرض لايات لاولى الألباب فليس في الوجود ما لا يدل عليه تعالى ولا يحكى شيئا من جماله وجلاله.
فالاشياء من جهة انواع خلقها وحسنها تدل على جماله الذي لا يتناهى ويحمده ويثنى على حسنه الذي لا يفنى ومن جهة ما فيها من انواع النقص والحاجة تدل على غناه المطلق وتسبح وتنزه ساحة القدس والكبرياء كما قال تعالى: {وان من شيء الا يسبح بحمده} اسرى 44.
فهؤلاء يسلكون في معرفة الأشياء من طريق هداهم إليه ربهم وعرفها لهم وهو انها آيات له وعلامات لصفات جماله وجلاله وليس لها من النفسية والاصالة والاستقلال الا انها كمرائى تجلى بحسنها ما وراءها من الحسن غير المتناهى وبفقرها وحاجتها ما احاط بها من الغنى المطلق وبذلتها واستكانتها ما فوقها من العزة والكبرياء ولا يلبث الناظر إلى الكون بهذه النظرة دون ان تنجذب نفسه إلى ساحة العزة والعظمة ويغشى قلبه من المحبة الإلهية ما ينسيه نفسه وكل شيء ويمحو رسم الاهواء والاميال النفسانية عن باطنه ويبدل فؤاده قلبا سليما ليس فيه الا الله عز اسمه قال تعالى: {والذين آمنوا اشد حبا لله} البقرة: 165.
ولذلك يرى اهل هذا الطريق ان الطريقين الاخرين اعني طريق العبادة خوفا وطريق العبادة طمعا لا يخلوان من شرك فان الذي يعبده تعالى خوفا من عذابه يتوسل به تعالى إلى دفع العذاب عن نفسه كما ان من يعبده طمعا في ثوابه يتوسل به تعالى إلى الفوز بالنعمة والكرامة ولو امكنه الوصول إلى ما يبتغيه من غير ان يعبده لم يعبده ولا حام حول معرفته وقد تقدمت الرواية عن الصادق عليه السلام «هل الدين الا الحب» وقوله عليه السلام في حديث: «وانى اعبده حبا له وهذا مقام مكنون لا يمسه الا المطهرون» الحديث وانما كان اهل الحب مطهرين لتنزههم عن الاهواء النفسانية والالواث المادية فلا يتم الاخلاص في العبادة الا من طريق الحب.
3- كيف يورث الحب الاخلاص؟ عبادته تعالى خوفا من العذاب تبعث الإنسان إلى التروك وهو الزهد في الدنيا للنجاة في الاخرة فالزاهد من شأنه ان يتجنب المحرمات أو ما في معنى الحرام اعني ترك الواجبات وعبادته تعالى طمعا في الثواب تبعث إلى الأفعال وهو العبادة في الدنيا بالعمل الصالح لنيل نعم الاخرة والجنة فالعابد من شأنه ان يلتزم الواجبات أو ما في معنى الواجب وهو ترك الحرام والطريقان معا انما يدعو ان إلى الاخلاص للدين لا لرب الدين.
واما محبة الله سبحانه فانها تطهر القلب من التعلق بغيره تعالى من زخارف الدنيا وزينها من ولد أو زوج أو مال أو جاه حتى النفس وما لها من حظوظ وآمال وتقصر القلب في التعلق به تعالى وبما ينسب إليه من دين أو نبى أو ولى وسائر ما يرجع إليه تعالى بوجه فان حب الشيء حب لآثاره.
فهذا الإنسان يحب من الأعمال ما يحبه الله ويبغض منها ما يبغضه الله ويرضى برضا الله ولرضاه ويغضب بغضب الله ولغضبه وهو النور الذي يضئ له طريق العمل قال تعالى: {أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشى به في الناس} الأنعام: 122 والروح الذي يشير إليه بالخيرات والاعمال الصالحات قال تعالى: {وايدهم بروح منه} المجادلة: 22 وهذا هو السر في انه لا يقع منه الا الجميل والخير ويتجنب كل مكروه وشر.
واما الموجودات الكونية والحوادث الواقعة فانه لا يقع بصره على شيء منها خطير أو حقير كثير أو يسير الا احبه واستحسنه لأنه لا يرى منها الا انها آيات محضة تجلى له ما وراءها من الجمال المطلق والحسن الذي لا يتناهى العارى من كل شين ومكروه.
ولذلك كان هذا الإنسان محبورا بنعمة ربه بسرور لا غم معه ولذة وابتهاج لا الم ولا حزن معه وامن لا خوف معه فان هذه العوارض السوء انما تطرء عن ادراك للسوء وترقب للشر والمكروه ومن كان لا يرى الا الخير والجميل ولا يجد الا ما يجرى على وفق ارادته ورضاه فلا سبيل للغم والحزن والخوف وكل ما يسوء الإنسان ويؤذيه إليه بل ينال من السرور والابتهاج والامن ما لا يقدره ولا يحيط به الا الله سبحانه وهذا أمر ليس في وسع النفوس العادية ان تتعقله وتكتنهه الا بنوع من التصور الناقص.
واليه يشير امثال قوله تعالى: {إلا أن اولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون} يونس: 63 وقوله: {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم اولئك لهم الأمن وهم مهتدون} الأنعام: 82.
وهؤلاء هم المقربون الفائزون بقربه تعالى إذ لا يحول بينهم وبين ربهم شيء مما يقع عليه الحس أو يتعلق به الوهم أو تهواه النفس أو يلبسه الشيطان فان كل ما يترائى لهم ليس الا آية كاشفة عن الحق المتعال لا حجابا ساترا فيفيض عليهم ربهم علم اليقين ويكشف لهم عما عنده من الحقائق المستورة عن هذا الاعين المادية العمية بعد ما يرفع الستر فيما بينه وبينهم كما يشير إليه قوله تعالى: {كلا ان كتاب الابرار لفى عليين وما ادراك ما عليون كتاب مرقوم يشهده المقربون} المطففين: 21 وقوله تعالى: {كلا لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم} التكاثر: 6 وقد تقدم كلام في هذا المعنى في ذيل قوله تعالى: {يا ايها الذين آمنوا عليكم انفسكم} المائدة: 105 في الجزء السادس من الكتاب.
وبالجملة هؤلاء في الحقيقة هم المتوكلون على الله المفوضون إليه الراضون بقضائه المسلمون لامره إذ لا يرون الا خيرا ولا يشاهدون الا جميلا فيستقر في نفوسهم من الملكات الشريفة والاخلاق الكريمة ما يلائم هذا التوحيد فهم مخلصون لله في اخلاقهم كما كانوا مخلصين له في اعمالهم هذا معنى اخلاص العبد دينه لله قال تعالى: {هو الحى لا اله هو فادعوه مخلصين له الدين} المؤمن: 65.
4- واما اخلاصه تعالى عبده له فهو ما يجده العبد في نفسه من الاخلاص له منسوبا إليه تعالى فان العبد لا يملك من نفسه شيئا الا بالله والله سبحانه هو المالك لما ملكه اياه فاخلاصه دينه وان شئت فقل اخلاصه نفسه لله هو اخلاصه تعالى اياه لنفسه.
نعم هاهنا شيء وهو ان الله سبحانه خلق بعض عباده هؤلاء على استقامة الفطرة واعتدال الخلقة فنشأوا من بادئ الأمر بأذهان وقادة وادراكات صحيحة ونفوس طاهرة وقلوب سليمة فنالوا بمجرد صفاء الفطرة وسلامة النفس من نعمة الاخلاص ما ناله غيرهم بالاجتهاد والكسب بل اعلى وارقى لطهارة داخلهم من التلوث بألواث الموانع والمزاحمات والظاهر ان هؤلاء هم المخلصون بالفتح لله في عرف القرآن.
وهؤلاء هم الأنبياء والائمة وقد نص القرآن بأن الله اجتباهم أي جمعهم لنفسه واخلصهم لحضرته قال تعالى: {واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم} الأنعام: 87 وقال: {هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج} الحج: 78.
وآتاهم الله سبحانه من العلم ما هو ملكة تعصمهم من اقتراف الذنوب وارتكاب المعاصي وتمتنع معه صدور شيء منها عنهم صغيرة أو كبيرة وبهذا يمتاز العصمة من العدالة فانهما معا تمنعان من صدور المعصية لكن العصمة يمتنع معها الصدور بخلاف العدالة.
وقد تقدم آنفا ان من خاصة هؤلاء القوم انهم يعلمون من ربهم ما لا يعلمه غيرهم والله سبحانه يصدق ذلك بقوله: {سبحان الله عما يصفون الا عباد الله المخلصين} الصافات 160 وان المحبة الإلهية تبعثهم على ان لا يريدوا الا ما يريده الله وينصرفوا عن المعاصي والله سبحانه يقرر ذلك بما حكاه عن ابليس في غير مورد من كلامه كقوله: {قال فبعزتك لا غوينهم اجمعين الا عبادك منهم المخلصين} ص 83.
ومن الدليل على ان العصمة من قبيل العلم قوله تعالى خطابا لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم: {ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم ان يضلوك وما يضلون الا انفسهم وما يضرونك من شيء وانزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما} النساء: 113 وقد فصلنا الكلام في معنى الآية في تفسير سورة النساء.
وقوله تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام: {قال رب السجن احب الي مما يدعونني إليه والا تصرف عنى كيدهن اصب اليهن واكن من الجاهلين} يوسف: 33 وقد اوضحنا وجه دلالة الآية على ذلك.
ويظهر من ذلك اولا ان هذا العلم يخالف سائر العلوم في ان اثره العملي وهو صرف الإنسان عما لا ينبغى إلى ما ينبغى قطعي غير متخلف دائما بخلاف سائر العلوم فان الصرف فيها اكثري غير دائم قال تعالى: {وجحدوا بها واستيقنتها انفسهم} النمل: 14 وقال: {أفرأيت من اتخذ الهه هواه وأضله الله على علم} الجاثية: 23 وقال: {فما اختلفوا الا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم} الجاثية: 17.
ويدل على ذلك أيضا قوله تعالى: {سبحان الله عما يصفون الا عباد الله المخلصين} الصافات: 160 وذلك ان هؤلاء المخلصين من الأنبياء والائمة عليه السلام قد بينوا لنا جمل المعارف المتعلقة باسمائه تعالى وصفاته من طريق السمع وقد حصلنا العلم به من طريق البرهان أيضا والآية مع ذلك تنزهه تعالى عن ما نصفه به دون ما يصفه به اولئك المخلصون فليس إلا أن العلم غير العلم وان كان متعلق العلمين واحدا من وجه.
وثانيا ان هذا العلم اعني ملكة العصمة لا يغير الطبيعة الإنسانية المختارة في افعالها الارادية ولا يخرجها إلى ساحة الاجبار والاضطرار كيف؟ والعلم من مبادئ الاختيار ومجرد قوة العلم لا يوجب الا قوة الإرادة كطالب السلامة إذا ايقن بكون مانع ما سما قاتلا من حينه فانه يمتنع باختياره من شربه قطعا وانما يضطر الفاعل ويجبر إذا اخرج من يجبره احد طرفي الفعل والترك من الامكان إلى الامتناع.
ويشهد على ذلك قوله: {واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم ذلك هدى الله يهدى به من يشاء من عباده ولو اشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون} الأنعام: 88 تفيد الآية انهم في امكانهم ان يشركوا بالله وان كان الاجتباء والهدى الإلهى مانعا من ذلك وقوله: {يا أيها النبي بلغ ما انزل اليك من ربك وان لم تفعل فما بلغت رسالته} المائدة: 67 إلى غير ذلك من الآيات.
فالانسان المعصوم انما ينصرف عن المعصية بنفسه ومن عن اختياره وارادته ونسبة الصرف إلى عصمته تعالى كنسبة انصراف غير المعصوم عن المعصية إلى توفيقه تعالى.
ولا ينافى ذلك أيضا ما يشير إليه كلامه تعالى ويصرح به الاخبار ان ذلك من الأنبياء والائمة بتسديد من روح القدس فان النسبة إلى روح القدس كنسبة تسديد المؤمن إلى روح الإيمان ونسبة الضلال والغواية إلى الشيطان وتسويله فان شيئا من ذلك لا يخرج الفعل عن كونه فعلا صادرا عن فاعله مستندا إلى اختياره وارادته فافهم ذلك.
نعم هناك قوم زعموا ان الله سبحانه انما يصرف الإنسان عن المعصية لا من طريق اختياره وارادته بل من طريق منازعة الأسباب ومغالبتها بخلق ارادة أو ارسال ملك يقاوم ارادة الإنسان فيمنعها عن التأثير أو يغير مجراها ويحرفها إلى غير ما من طبع الإنسان ان يقصده كما يمنع الإنسان القوى الضعيف عما يريده من الفعل بحسب طبعه.
وبعض هؤلاء وان كانوا من المجبرة لكن الأصل المشترك الذي يبتنى عليه نظرهم هذا واشباهه انهم يرون ان حاجة الأشياء إلى البارئ الحق سبحانه انما هي في حدوثها واما في بقائها بعد ما وجدت فلا حاجة لها إليه فهو سبحانه سبب في عرض الأسباب الا انه لما كان اقدر واقوى من كل شيء كان له ان يتصرف في الأشياء حال البقاء أي تصرف شاء من منع أو اطلاق واحياء أو اماتة ومعافاة أو تمريض وتوسعة أو تقتير إلى غير ذلك بالقهر.